كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَلَمَّا حَاجَّ إِبْرَاهِيمُ قَوْمَهُ بِبَيَانِ بُطْلَانِ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَرُبُوبِيَّةِ الْكَوْكَبِ، وَإِثْبَاتِ وَحْدَانِيَّةِ اللهِ تَعَالَى، وَوُجُوبِ عِبَادَتِهِ وَحْدَهُ- وَهِيَ الْحَنِيفِيَّةُ- حَاجُّوهُ بِبَيَانِ أَوْهَامِهِمْ فِي شِرْكِهِمْ، وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى فِي سُورَتَيِ الْأَنْبِيَاءِ وَالشُّعَرَاءِ أَنَّهُمُ اعْتَذَرُوا لَهُ عَنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَالْأَصْنَامِ بِتَقْلِيدِ آبَائِهِمْ، وَلَيْسَ لِلْمُقَلِّدِ أَنْ يَحْتَجَّ، وَلَكِنَّهُ يُجَادِلُ مَعَ كَوْنِهِ لَا يَخْضَعُ لِلْحُجَّةِ إِذَا قَامَتْ عَلَيْهِ، وَيُؤْخَذُ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ أَنَّهُمْ لَمَّا لَمْ يَجِدُوا حُجَّةً عَقْلِيَّةً عَلَى شِرْكِهِمْ بِاللهِ خَوَّفُوهُ أَنْ تَمَسَّهُ آلِهَتُهُمْ بِسُوءٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا كَانَ قَبْلَ مَا حَكَى اللهُ تَعَالَى عَنْهُ وَعَنْهُمْ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ، بِقَوْلِهِ: {قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [26: 72- 74] وَقَبْلَ وَاقِعَةِ تَكْسِيرِهِ لِأَصْنَامِهِمُ الَّتِي قَالَ اللهُ فِيهَا مِنْ سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ إِنَّهُمْ رَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَاعْتَرَفُوا بِظُلْمِهِمْ، ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ مُصِرِّينَ عَلَى شِرْكِهِمْ وَكَثِيرًا مَا يَضْطَرِبُ الْمُقَلِّدُ لِسَمَاعِ الْحُجَّةِ إِذْ يُومِضُ فِي قَلْبِهِ بَرْقُهَا، وَيَهُزُّ شُعُورَهُ رَعْدُهَا. وَيَكَادُ يُحْيِيهِ وَدَقُهَا، ثُمَّ يَنْكُسُ عَلَى رَأْسِهِ، وَيَعُودُ إِلَى سَابِقِ وَهْمِهِ، خَائِفًا مِنْ غَيْرِ مُخَوِّفٍ، رَاجِيًا غَيْرَ مَرْجُوٍّ، كَمَا نَرَاهُ فِي عُبَّادِ أَصْحَابِ الْقُبُورِ الَّذِينَ يَتَوَهَّمُونَ أَنَّ قُبُورَهُمْ وَغَيْرَهَا مِنْ آثَارِهِمْ تَدْفَعُ عَمَّنْ زَارَهَا أَوْ تَمْسَّحُ بِهَا الضُّرَّ، وَتَكْشِفُ السُّوءَ وَتُدِرُّ الرِّزْقَ، وَتُخْزِي الْعَدُوَّ، إِمَّا بِتَصَرُّفِهِمْ فِي الْخَلْقِ، وَإِمَّا لِأَنَّهُمْ قُرْبَانٌ عِنْدَ الرَّبِّ، وَلَا يَرَوْنَ ذَلِكَ نَاقِضًا لِلْإِيمَانِ الصَّحِيحِ بِاللهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [12: 106] قَالَ تَعَالَى: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ} أَيْ: وَجَادَلَهُ قَوْمُهُ بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَمْرِهِ مَعَهُمْ، وَخَاصَمُوهُ فِي أَمْرِ التَّوْحِيدِ الَّذِي قَرَّرَهُ لَهُمْ، كَأَنْ زَعَمُوا- كَمَا رُوِيَ وَسُمِعَ مِنْ أَمْثَالِهِمْ- أَنَّ اتِّخَاذَ الْآلِهَةِ لَا يُنَافِي الْإِيمَانَ بِاللهِ الْفَاطِرِ سُبْحَانَهُ؛ لِأَنَّهُمْ وُسَطَاءُ وَشُفَعَاءُ عِنْدَهُ، وَمُتَّخَذُونَ لِأَجْلِهِ، وَذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا عَنِ ابْنِ زَيْدٍ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا} وَخَوَّفُوهُ بَطْشَهُمْ بِهِ. فَمَاذَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ؟ {قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدَانِ} أَيْ أَتُجَادِلُونَنِي مُجَادَلَةَ صَاحِبِ الْحُجَّةِ فِي شَأْنِ اللهِ تَعَالَى وَمَا يَجِبُ فِي الْإِيمَانِ بِهِ- وَالْحَالُ أَنَّهُ قَدْ فَضَّلَنِي عَلَيْكُمْ بِمَا هَدَانِي إِلَى التَّوْحِيدِ الْخَالِصِ وَالْحَنِيفِيَّةِ الَّتِي أَقَمْتُ بِهَا الْحُجَّةَ عَلَيْكُمْ، وَأَنْتُمْ ضَالُّونَ بِإِصْرَارِكُمْ عَلَى شِرْكِكُمْ، وَتَقْلِيدِكُمْ بِهِ مَنْ قَبْلَكُمْ؟ وَقَدْ خَفَّفَ نُونَ {تُحَاجُّونِّي} نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ فِي رِوَايَةِ ابْنِ ذَكْوَانَ، وَذَلِكَ بِحَذْفِ إِحْدَى النُّونَيْنِ، وَشَدَّدَهَا سَائِرُ الْقُرَّاءِ، وَهُمَا لُغَتَانِ لِلْعَرَبِ فِي مِثْلِهَا، وَحُذِفَتِ الْيَاءُ مِنْ هَدَانِي فِي الرَّسْمِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَظْهَرُ فِي النُّطْقِ {وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ} مِنَ الْكَوَاكِبِ وَالْأَصْنَامِ أَنْ تُصِيبَنِي بِسُوءٍ، فَإِنِّي أَعْلَمُ عِلْمَ الْيَقِينِ أَنَّهَا لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، وَلَا تُبْصِرُ وَلَا تَسْمَعُ، وَلَا تُقَرِّبُ وَلَا تَشْفَعُ {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا}- أَيْ لَكِنِ اسْتَثْنَى مِنْ عُمُومِ الْخَوْفِ فِي عُمُومِ الْأَوْقَاتِ- مِنْ جِهَةِ آلِهَتِكُمْ كَغَيْرِهَا مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ، أَنْ يَشَاءَ رَبِّيَ الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وُقُوعَ مَكْرُوهٍ بِي، فَإِنَّهُ يَقَعُ لَا مَحَالَةَ كَمَا شَاءَ رَبِّي، فَإِنْ فَرَضَ أَنَّهُ شَاءَ أَنْ يَسْقُطَ عَلَيَّ صَنَمٌ يَشُجُّنِي، أَوْ كِسَفًا مِنْ شُهُبِ الْكَوَاكِبِ يَقْتُلُنِي- فَإِنَّ ذَلِكَ يَقَعُ بِقُدْرَةِ رَبِّي وَمَشِيئَتِهِ، لَا بِمَشِيئَةِ الصَّنَمِ أَوِ الْكَوْكَبِ وَلَا بِقُدْرَتِهِ، وَلَا بِتَأْثِيرِهِ فِي قُدْرَتِهِ تَعَالَى وَإِرَادَتِهِ، وَلَا بِجَاهِهِ عِنْدَهُ وَشَفَاعَتِهِ؛ إِذْ لَا تَأْثِيرَ لِشَيْءٍ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ فِي مَشِيئَةِ الْخَالِقِ الْأَزَلِيَّةِ الْجَارِيَةِ بِمَا ثَبَتَ فِي عِلْمِهِ {وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} أَيْ أَنَّ عِلْمَ رَبِّي وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ، وَأَحَاطَ بِهِ وَمَشِيئَتُهُ مُرْتَبِطَةٌ بِعَمَلِهِ الْمُحِيطِ الْقَدِيمِ، وَقُدْرَتُهُ مُنَفِّذَةٌ لِمَشِيئَتِهِ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لِشَيْءٍ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ الَّتِي تَعْبُدُونَهَا وَلَا لِغَيْرِهَا تَأْثِيرٌ مَا فِي صِفَاتِهِ، وَلَا فِي أَفْعَالِهِ الصَّادِرَةِ عَنْهَا، لَا بِشَفَاعَةٍ وَلَا غَيْرِهَا، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ لَوْ كَانَ عِلْمُ اللهِ تَعَالَى غَيْرَ مُحِيطٍ بِكُلِّ شَيْءٍ، فَيَعْلَمُهُ الشُّفَعَاءُ وَالْوُسَطَاءُ مِنْ وُجُوهِ مُرَجِّحَاتِ الْفِعْلِ أَوِ التَّرْكِ بِالشَّفَاعَةِ أَوْ غَيْرِهَا مَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ، فَيَكُونُ ذَلِكَ هُوَ الْحَامِلُ لَهُ عَلَى الضُّرِّ أَوِ النَّفْعِ، أَوِ الْعَطَاءِ أَوِ الْمَنْعِ، أَخَذْنَا هَذَا الْمَعْنَى لِهَذِهِ الْجُمْلَةِ مِنْ حُجَجِ اللهِ تَعَالَى عَلَى نَفْيِ الشَّفَاعَةِ الشِّرْكِيَّةِ بِمِثْلِ قَوْلِهِ: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [2: 255] فَرَاجِعْ تَفْسِيرَهُ (فِي جُزْءِ التَّفْسِيرِ الثَّالِثِ) وَجَعَلَ الْجُمْلَةَ بَعْضُهُمْ كَالتَّعْلِيلِ لِلِاسْتِثْنَاءِ، بِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ قَدْ سَبَقَ فِي عِلْمِهِ تَعَالَى إِصَابَتُهُ بِسُوءٍ يَكُونُ سَبَبُهُ الْأَصْنَامُ، أَوْ لِبَيَانِ أَنَّهُ لِإِحَاطَةِ عِلْمِهِ لَا يَفْعَلُ إِلَّا مَا فِيهِ الْخَيْرُ وَالصَّلَاحُ، وَجَعَلَهَا بَعْضُهُمْ تَعْرِيضًا بِجَهْلِ مَعْبُودَاتِهِمْ مِنَ الْكَوَاكِبِ وَالْأَوْثَانِ، وَمَا قُلْنَاهُ أَرْجَحُ، وَهُوَ مِنْ قَبِيلِ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ بِالْقُرْآنِ {أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ} أَيُّهَا الْغَافِلُونَ أَنَّ هَذَا هُوَ شَأْنُ الرَّبِّ الْفَاطِرِ، وَأَنَّهُ يُنَافِي مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الشِّرْكِ الظَّاهِرِ، وَمِنْهُ اعْتِقَادُ وُقُوعِ الضُّرِّ بِي أَوِ النَّفْعِ لَكُمْ بِالتَّصَرُّفِ الَّذِي تَزْعُمُونَهُ فِي مَعْبُودَاتِكُمْ؟ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُمْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لِلْعَالَمِ كُلِّهِ رَبًّا خَالِقًا غَيْرَ هَذِهِ الْآلِهَةِ وَالْأَرْبَابِ الْمُتَّخَذَةِ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ اتِّخَاذًا، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْقِلُونَ بِأَنْفُسِهِمْ أَنَّ نِسْبَةَ جَمِيعِ الْخَلْقِ إِلَى الْخَالِقِ وَاحِدَةٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ هُوَ الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى، فَسَخَّرَ مَا شَاءَ بِسُنَنِ الْأَقْدَارِ، وَنِظَامِ الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبِّبَاتِ، ثُمَّ هَدَى الْعُقَلَاءَ لِتِلْكَ الْأَسْبَابِ، لِيَطْلُبُوا الْمَنَافِعَ وَيَتَّقُوا الْمَضَارَّ، وَقَدْ ظَهَرَ بِالدَّلَائِلِ وَالتَّجَارِبِ أَنَّهَا مُسَخَّرَةٌ عَلَى سَوَاءٍ، فَالسُّلْطَةُ الْغَيْبِيَّةُ الْعُلْيَا لَهُ وَحْدَهُ، لَيْسَ لِغَيْرِهِ تَأْثِيرٌ فِيهَا مَعَهُ وَلَا تَدْبِيرٌ، فَإِذَا جَعَلَ بَعْضَ الْأَجْنَاسِ أَوِ الْأَشْخَاصِ سَبَبًا لِلنَّفْعِ أَوِ الضُّرِّ بِإِرَادَةٍ خَلَقَهَا لَهَا كَالْحَيَوَانَاتِ، أَوْ بِغَيْرِ إِرَادَةٍ كَالْجَمَادَاتِ- فَلَا يَقْتَضِي ذَلِكَ أَنْ تُرْفَعَ رُتْبَةَ الْمَخْلُوقَاتِ، وَتُجْعَلَ أَرْبَابًا وَمَعْبُودَاتٍ، وَكَانَ يَجِبُ أَنْ يَفْطِنَ الْعَاقِلُ لِذَلِكَ وَيَتَذَكَّرَهُ بِالتَّذْكِيرِ بِهِ؛ لِأَنَّهُ تَذْكِيرٌ بِمَا يُدْرِكُهُ الْعَقْلُ بِالْبُرْهَانِ، وَتَعْرِفُهُ الْفِطْرَةُ بِالْوِجْدَانِ، فَكَأَنَّهُ مِمَّا غَفَلَ عَنْهُ لَا مِمَّا جَهِلَهُ، لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ لَهُ بِالْقُوَّةِ، وَفَسَّرَ ابْنُ جَرِيرٍ التَّذَكُّرَ هُنَا بِالِاعْتِبَارِ وَالِاتِّعَاظِ وَهُوَ أَحَدُ مَعَانِيهِ: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى} [87: 9، 10].
وَمِنَ الْعِبْرَةِ فِي الْآيَةِ أَنَّ هَذَا الضَّرْبَ مِنَ الشِّرْكِ الَّذِي رَدَّهُ إِمَامُ الْمُوَحِّدِينَ إِبْرَاهِيمُ- صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ- لَا يَزَالُ فَاشِيًا فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمُنْتَمِينَ فِي التَّوْحِيدِ إِلَى مِلَّتِهِ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَعْقِلُوا مَا تَقَدَّمَ مِنْ حُجَّتِهِ، فَهُمْ يَنْسُبُونَ إِلَى مَنْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ لَهُمْ تَصَرُّفًا غَيْبِيًّا فِي الْمَخْلُوقَاتِ، سَوَاءٌ كَانُوا مِنَ الْأَحْيَاءِ أَوِ الْأَمْوَاتِ، مَا يَقَعُ عَقِبَ زِيَارَتِهِ لَهُمْ، أَوْ تَوَسُّلِهِمْ بِهِمْ، مِنْ زَوَالِ أَلَمٍ، أَوْ خَيْرٍ أَلَمَّ، أَوْ نَفْعٍ أَصَابَ حَبِيبًا دَعَوْا لَهُ، أَوْ ضُرٍّ أَصَابَ عَدُوًّا دَعَوْا عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَقَعُ مَا يَقَعُ مِنْ ذَلِكَ بِسَبَبٍ حَقِيقِيٍّ جَلِيٍّ، أَوْ وَهْمِيٍّ خَفِيٍّ، وَكُلٌّ بِتَقْدِيرِ اللهِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ.
وَبَعْدَ أَنْ بَيَّنَ لَهُمْ عليه السلام أَنَّهُ لَا يَخَافُ شُرَكَاءَهُمْ بَلْ يَخَافُ اللهَ وَحْدَهُ مِنْ نَاحِيَةِ الْأَسْبَابِ وَمِنْ غَيْرِ نَاحِيَتِهَا قَالَ: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا} أي وَكَيْفَ أَخَافَ مَا أَشْرَكْتُمُوهُ بِرَبِّكُمْ مِنْ خَلْقِهِ فَجَعَلْتُمُوهُ نِدًّا لَهُ وَهُوَ لَا يَنْفَعُ وَلَا يَضُرُّ، وَلَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ، وَلَا تَخَافُونَ أَنْتُمْ إِشْرَاكَكُمْ بِاللهِ خَالِقِكُمْ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ حُجَّةً بَيِّنَةً بِالْوَحْيِ، وَلَا بِنَظَرِ الْعَقْلِ، تُثْبِتُ لَكُمْ جَعْلَهُ شَرِيكًا لَهُ فِي الْخَلْقِ وَالتَّدْبِيرِ، أَوْ فِي الْوَسَاطَةِ وَالشَّفَاعَةِ وَالتَّأْثِيرِ، فَافْتِيَاتُكُمْ عَلَى خَالِقِكُمُ الَّذِي بِيَدِهِ الضُّرُّ وَالنَّفْعُ بِهَذِهِ الْمُوبِقَةِ الْفَظِيعَةِ هُوَ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يُخَافَ وَيُتَّقَى، فَالِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ التَّعَجُّبِيِّ مِنْ تَخْوِيفِهِمْ إِيَّاهُ مَا لَا يُخِيفُ، فِي حَالِ كَوْنِهِمْ لَا يَخَافُونَ أَخْوَفَ مَا يُخَافُ، وَقَدْ قِيلَ إِنَّ هَذَا الِاسْتِفْهَامَ عَنْ كَيْفِيَّةِ الْخَوْفِ لَا عَنِ الْخَوْفِ نَفْسِهِ وَبَحَثُوا عَنْ نُكْتَتِهِ، وَالْمُرَادُ نُكْتَةُ الْعُدُولِ عَنِ الِاسْتِفْهَامِ بِالْهَمْزَةِ إِلَى الِاسْتِفْهَامِ بِكَيْفَ، وَهِيَ أَيِ النُّكْتَةُ تُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِ أَهْلِ اللُّغَةِ فِي مَعْنَى كَيْفَ مِنْ كَوْنِهَا سُؤَالًا عَنِ الْأَحْوَالِ- لَا مِمَّا تَكَلَّفَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ- وَالْمَعْنَى أَنَّ كُلَّ صِفَةٍ وَحَالٍ يُمْكِنُ أَنْ تُدْعَى لِصِحَّةِ هَذَا الْخَوْفِ فَهِيَ بَاطِلَةٌ، وَأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَجِدْ لِهَذَا الْخَوْفِ حَالًا وَلَا وَجْهًا، فَلَا هُوَ يَخَافُ هَؤُلَاءِ الشُّرَكَاءَ لِذَوَاتِهِمْ، وَلَا لِمَا يَزْعُمُونَهُ مِنْ وَسَاطَتِهِمْ عِنْدَ اللهِ وَشَفَاعَتِهِمْ، وَلَا لِقُدْرَةٍ عَلَى الضُّرِّ وَالنَّفْعِ قَدْ تُدَّعَى- وَلَوْ جَعَلَ اللهُ- لَهُمْ وَلَا لِثُبُوتِ جَعْلِهِمْ أَسْبَابًا لِلضَّرَرِ بِغَيْرِ إِرَادَةٍ وَلَا اخْتِيَارٍ مِنْهُمْ، فَالْمُرَادُ أَنَّ جَمِيعَ وُجُوهِ الْخَوْفِ وَأَحْوَالِهِ الْحَقِيقِيَّةِ وَالْمَجَازِ مُنْتَفِيَةٌ، وَإِلَّا فَعَلَيْهِمْ بَيَانُ كَيْفَ يَخَافُونَ.
وَقَدْ حُذِفَ مُتَعَلِّقُ الشِّرْكِ فِي مَقَامِ إِنْكَارِ خَوْفِهِ مِنْ شُرَكَائِهِمْ، وَذَكَرَهُ بَعْدَهُ فِي مَقَامِ إِنْكَارِ عَدَمِ خَوْفِهِمْ مِنْ شِرْكِهِمْ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا} لِأَنَّ الْحَاجَةَ إِلَى بَيَانِ عَدَمِ وُجُودِ السُّلْطَانِ- أَيِ الدَّلِيلِ- عَلَى هَذَا الشِّرْكِ إِنَّمَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي مَقَامِ إِسْنَادِهِ إِلَيْهِمْ وَالتَّعَجُّبِ مِنْ عَدَمِ خَوْفِهِمْ سُوءَ عَاقِبَتِهِ، مَا لَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي مَقَامِ إِنْكَارِهِ هُوَ كُلَّ حَالٍ يُمْكِنُ أَنْ تُدْعَى لِخَوْفِهِ مِنْ شُرَكَائِهِمْ، فَهُوَ يُثْبِتُ بِذَلِكَ الْإِطْلَاقِ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ تُوجَدَ حَالٌ وَلَا صِفَةٌ لِلْخَوْفِ مِمَّا أَشْرَكُوهُ، فَلَوْ عَدَلَ عَنْهُ إِلَى تَقْيِيدِ إِنْكَارِهِ بِمَا ذَكَرَ لَفَاتَ بِهَذَا الْقَيْدِ ذَلِكَ الْعُمُومُ الْبَلِيغُ، وَذَهَبَ ذِهْنُ السَّامِعِينَ إِلَى أَنَّهُ سَيَخَافُ إِذَا ظَهَرَ لَهُ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ دَعْوَاهُمْ، وَهُمْ قَوْمٌ مُقَلِّدُونَ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ لابد مِنْ وُجُودِ أَدِلَّةٍ تُثْبِتُ صِحَّةَ اعْتِقَادِهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفُوهَا أَوْ يَقْدِرُوا عَلَى بَيَانِهَا لِخَصْمِهِمْ، وَأَمَّا ذِكْرُ هَذَا الْمُتَعَلِّقِ فِي مَقَامِ الْإِنْكَارِ التَّعَجُّبِيِّ مِنْ عَدَمِ خَوْفِهِمْ فَهُوَ ضَرُورِيٌّ، لِأَنَّهُ تَذْكِيرٌ لَهُمْ عِنْدَ ذِكْرِ عَقِيدَتِهِمْ بِأَنَّهُمْ لَا عُذْرَ لَهُمْ بِالْجَهْلِ بِبُطْلَانِهَا لِأَنَّهُ لَا دَلِيلَ لَهُمْ عَلَيْهَا.
وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِنَّ قَوْلَهُ: {مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا} قَدْ ذُكِرَ عَلَى طَرِيقِ التَّهَكُّمِ مَعَ الْإِعْلَامِ بِأَنَّ الدِّينَ لَا يُقْبَلُ إِلَّا بِالْحُجَّةِ الْمُنَزَّلَةِ أَوْ مُطْلَقِ الْحُجَّةِ الْقَاطِعَةِ، وَأَنَّ التَّقْلِيدَ لَيْسَ بِعُذْرٍ وَلاسيما تَقْلِيدُ مَنْ لَيْسَ عَلَى هِدَايَةٍ وَلَا عِلْمٍ وَلَا بَصِيرَةٍ وَلَا عَقْلٍ، وَذَكَرَ الرَّازِيُّ فِي الْعِبَارَةِ وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا كِنَايَةٌ عَنِ امْتِنَاعِ وُجُودِ الْحُجَّةِ وَالسُّلْطَانِ عَلَى الشِّرْكِ، وَالْمَعْنَى مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانَهُ لِأَنَّهُ بَاطِلٌ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَقُومَ عَلَيْهِ بُرْهَانٌ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} [23: 117] أَيْ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ يَعْلَمُهُ وَلَا بُرْهَانَ يَجْهَلُهُ لِاسْتِحَالَةِ الْبُرْهَانِ عَلَى الْبَاطِلِ. ثَانِيهِمَا: أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ عَقْلًا أَنْ يُؤْمَرَ بِاتِّخَاذِ تِلْكَ التَّمَاثِيلِ وَالصُّوَرِ قِبْلَةً لِلدُّعَاءِ وَالصَّلَاةِ. وَأَقُولُ: إِنَّ هَذَا الْوَجْهَ لَا مَحَلَّ لَهُ لِأَنَّ جَعْلَهَا قِبْلَةً غَيْرُ جَعْلِهَا شُرَكَاءَ يُخَافُ ضُرُّهَا وَيُرْجَى نَفْعُهَا لِذَاتِهَا أَوْ لِوَسَاطَتِهَا عِنْدَ اللهِ تَعَالَى، فَالْقِبْلَةُ لَا تَأْثِيرَ لَهَا فِي نَفْعٍ وَلَا ضُرٍّ لَا بِالذَّاتِ وَلَا بِالشَّفَاعَةِ كَمَا يَعْتَقِدُونَ فِي الشُّرَكَاءِ، وَإِنَّمَا يُتَوَّجَهُ إِلَيْهَا امْتِثَالًا لِأَمْرِ اللهِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ اسْتِلَامُ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ فِي الطَّوَافِ، فَالِانْتِفَاعُ مَحْصُورٌ فِي طَاعَةِ اللهِ تَعَالَى بِذَلِكَ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُزَكِّي النَّفْسَ.
ثُمَّ رَتَّبَ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ عَلَى هَذَا الْإِنْكَارِ التَّعَجُّبِيِّ مَا هُوَ نَتِيجَةٌ لَهُ بِقَوْلِهِ: {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} الْمُرَادُ بِالْفَرِيقَيْنِ فَرِيقُ الْمُوَحِّدِينَ الْحُنَفَاءِ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ اللهَ وَحْدَهُ، وَيَخَافُونَ وَيَرْجُونَهُ وَلَا يَخَافُونَ وَلَا يَرْجُونَ غَيْرَهُ مِنْ دُونِهِ، وَإِنَّمَا يُعَارِضُونَ الْأَسْبَابَ بِالْأَسْبَابِ، وَيُدَافِعُونَ الْأَقْدَارَ بِالْأَقْدَارِ، كَاتِّقَاءِ أَسْبَابِ الْأَمْرَاضِ قَبْلَ وُقُوعِهَا، وَمُدَافَعَتِهَا بِالْأَدْوِيَةِ بَعْدَ الِابْتِلَاءِ بِهَا، وَفَرِيقُ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا تَأْثِيرَ بَعْضِ الْأَسْبَابِ، فَاتَّخَذُوا مِنْهَا مَا اتَّخَذُوا مِنَ الْآلِهَةِ وَالْأَرْبَابِ، بَلْ نَسَبُوا إِلَى بَعْضِهَا النَّفْعَ وَالضُّرَّ بِخِدَاعِ الْمُصَادَفَاتِ وَاخْتِرَاعِ الْأَوْهَامِ، فَهُوَ يَقُولُ لَهُمْ: أَيُّ هَذَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ وَأَجْدَرُ بِالْأَمْنِ عَلَى نَفْسِهِ، مِنْ عَاقِبَةِ عَقِيدَتِهِ وَعِبَادَتِهِ؟ وَنُكْتَةُ عُدُولِهِ عَنْ قَوْلِ: فَأَيُّنَا أَحَقُّ بِالْأَمْنِ، إِلَى قَوْلِهِ: {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ} هِيَ بَيَانُ أَنَّ هَذِهِ الْمُقَابَلَةَ عَامَّةٌ لِكُلِّ مُوَحِّدٍ وَمُشْرِكٍ، مِنْ حَيْثُ أَنَّ أَحَدَ الْفَرِيقَيْنِ مُوَحِّدٌ وَالْآخِرَ مُشْرِكٌ، لَا خَاصَّةَ بِهِ وَبِهِمْ، فَهِيَ مُتَضَمِّنَةٌ لِعِلَّةِ الْأَمْنِ. وَقِيلَ: إِنْ نُكْتَتَهُ الِاحْتِرَازُ عَنْ تَزْكِيَةِ النَّفْسِ، وَاسْمُ التَّفْضِيلِ عَلَى غَيْرِ بَابِهِ، فَالْمُرَادُ أَيُّنَا الْحَقِيقُ بِالْأَمْنِ، وَلَكِنَّهُ عَبَّرَ بَاسِمِ التَّفْضِيلِ نَاطِقًا فِي اسْتِنْزَالِهِمْ عَنْ مُنْتَهَى الْبَاطِلِ- وَهُوَ ادِّعَاؤُهُمْ أَنَّهُمْ هُمُ الْحَقِيقُونَ بِالْأَمْنِ، وَأَنَّهُ هُوَ الْحَقِيقُ بِالْخَوْفِ- إِلَى الْوَسَطِ النَّظَرِيِّ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، وَهُوَ أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ، وَاحْتِرَازًا عَنْ تَنْفِيرِهِمْ مِنَ الْإِصْغَاءِ إِلَى قَوْلِهِ كُلِّهِ ثُمَّ قَالَ: {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أَيْ أَيُّهُمَا أَحَقُّ بِالْأَمْنِ- أَوْ إِنْ كُنْتُمْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْبَصِيرَةِ فِي هَذَا الْأَمْرِ- فَأَخْبَرُونِي بِذَلِكَ، وَبَيِّنُوهُ بِالدَّلَائِلِ وَهَذَا إِلْجَاءٌ إِلَى الِاعْتِرَافِ بِالْحَقِّ أَوِ السُّكُوتِ عَلَى الْحَمَاقَةِ وَالْجَهْلِ: وَأَمَّا الْجَوَابُ فَهُوَ قَوْلُهُ الْحَقُّ: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} فِي هَذَا الْجَوَابِ احْتِمَالَاتٌ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ مِنْ قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ: أَيْ تَذَكَّرُوا لَمَّا ذَكَّرَهُمْ وَرَاجَعُوا عُقُولَهُمْ وَفِطْرَتَهُمْ، فَاعْتَرَفُوا بِالْحَقِّ كَمَا اعْتَرَفُوا حِينَ كَسَّرَ أَصْنَامَهُمْ مِنْ بَعْدُ، إِذْ قَالَ لَهُمْ: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ} [21: 63- 65] وَقَدْ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ هَذَا الِاحْتِمَالَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ.
الثَّانِي: أَنَّهُ مِنْ قِبَلِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ صَرَّحَ بِهِ إِذْ سَكَتُوا عَنِ الْجَوَابِ مُفْحَمِينَ مُبَالَغَةً فِي تَبْكِيتِهِمْ، وَقَدْ قَالَ الألوسي: إِنَّ هَذَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ وَلَمْ أَرَهُ فِي تَفْسِيرِ ابْنِ جَرِيرٍ وَلَا ابْنِ كَثِيرٍ وَلَا الدُّرِّ الْمَنْثُورِ، وَلَعَلَّهُ نَقَلَهُ عَنْ بَعْضِ تَفَاسِيرِ الشِّيعَةِ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فَصَلَ بِهِ الْقَضَاءَ بَيْنَ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ حَاجَّهُ مِنْ قَوْمِهِ- رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ إِسْحَاقَ وَابْنِ زَيْدٍ وَاخْتَارَهُ وَقَالَ إِنَّهُ أَوْلَى الْقَوْلَيْنِ بِالصَّوَابِ وَقَدْ يُرَجِّحُهُ فِي اللَّفْظِ عَطْفُ الْآيَةِ التَّالِيَةِ عَلَى هَذِهِ.
وَالَّذِي نَرَاهُ: أَنَّ الْأَمْنَ فِي هَذَا الْكَلَامِ يُقَابِلُ الْخَوْفَ فِيهِ، وَهُوَ الْأَمْنُ مِنْ عَذَابِ الرَّبِّ الْمَعْبُودِ لِمَنْ لَا يَرْضَى إِيمَانَهُ وَعِبَادَتَهُ، فَإِنَّهُمْ خَوَّفُوا إِبْرَاهِيمَ أَنْ تَمَسَّهُ آلِهَتُهُمْ وَأَرْبَابُهُمْ بِسُوءٍ لَجَحْدِهِ إِيَّاهُمْ وَعَدَاوَتِهِ لَهُمْ، فَأَجَابَ بِأَنَّهُ إِنَّمَا يَخَافُ اللهَ وَحْدَهُ وَلَا يَخَافُهُمْ، وَالظُّلْمُ الَّذِي يُلْبَسُ بِهِ الْإِيمَانُ بِاللهِ وَيُخَالِطُهُ، فَيُنْقِصُ مِنْهُ أَوْ يَنْقُضُهُ، هُوَ الشِّرْكُ فِي الْعَقِيدَةِ أَوِ الْعِبَادَةِ، كَاتِّخَاذِ وَلِيٍ مِنْ دُونِ اللهِ يُدْعَى مَعَهُ أَوْ مِنْ دُونِهِ وَلَوْ لِأَجْلِ التَّقْرِيبِ إِلَيْهِ وَالشَّفَاعَةِ عِنْدَهُ. وَيُحَبُّ كَحُبِّهِ، وَيُعَظَّمُ مِنْ جِنْسِ تَعْظِيمِهِ، لِاعْتِقَادِ أَنَّ لَهُ سُلْطَانًا مِنْ وَرَاءِ الْأَسْبَابِ يَنْفَعُ بِهِ وَيَضُرُّ بِذَاتِهِ، أَوْ بِتَأْثِيرِهِ فِي مَشِيئَةِ اللهِ وَقُدْرَتِهِ، وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ الظُّلْمُ الَّذِي لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُلَابِسَ الْإِيمَانَ، كَظُلْمِ الْمَرْءِ نَفْسَهُ بِإِتْيَانِ بَعْضِ الْمَضَارِّ، أَوْ تَرْكِ بَعْضِ الْمَنَافِعِ عَنْ جَهْلٍ أَوْ إِهْمَالٍ أَوْ ظُلْمِ غَيْرِهِ بِبَعْضِ الْأَحْكَامِ أَوِ الْأَعْمَالِ، وَهَذَا التَّفْسِيرُ لِلظُّلْمِ يُبَيَّنُ بِهِ مَا وَرَدَ تَفْسِيرُهُ بِهِ فِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ الَّذِي سَنَذْكُرُهُ.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الظُّلْمَ فِي الْآيَةِ نَكِرَةٌ فِي حَيِّزِ النَّفْيِ فَهِيَ لِلْعُمُومِ وَالشُّمُولِ، قُلْنَا: إِنْ عُمُومَ كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِهِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} عَامٌّ فِي كُلِّ شَيْءٍ مُمْكِنٍ، وَلَا يَدْخُلُ فِي عُمُومِهِ ذَاتُ اللهِ تَعَالَى وَصِفَاتُهُ الْوَاجِبَةُ لَهُ فَلَا يُقَالُ إِنَّهُ قَادِرٌ عَلَى إِعْدَامِهَا وَلَا عَلَى إِيجَادِهَا وَلَا أَنَّهُ غَيْرُ قَادِرٍ، وَقَوْلُهُ فِي مَلِكَةِ سَبَأٍ: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [27: 23] عَامٌّ فِي كُلِّ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْمُلُوكُ، لَا كُلِّ شَيْءٍ فِي الْوُجُودِ، فَمَنْ لَمْ يَقْبَلْ جَعْلَ مِثْلِ هَذَا مِنَ الْعَامِّ بِإِطْلَاقٍ، فَلْيَجْعَلْهُ مِنَ الْعَامِّ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْخَاصُّ، وَقَدْ ذُهِلَ الزَّمَخْشَرِيُّ عَنْ كَوْنِ الْإِيمَانِ هُنَا هُوَ الْإِيمَانُ الْمُطْلَقُ الَّذِي أَثْبَتَهُ الْقُرْآنُ لِلْمُشْرِكِينَ لَا الْإِيمَانُ الصَّحِيحُ الْكَامِلُ الَّذِي جَاءَ بِهِ الرُّسُلُ، وَلِهَذَا الذُّهُولِ جَزَمَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالظُّلْمِ هُنَا الْمَعَاصِي دُونَ الشِّرْكِ لِأَنَّ الشِّرْكَ لَا يُخَالِطُ الْإِيمَانَ الصَّحِيحَ لِأَنَّهُ ضِدُّهُ وَنَقِيضُهُ، نَقُولُ: نَعَمْ وَلَكِنَّهُ يُخَالِطُ مُطْلَقَ الْإِيمَانِ بِاللهِ تَعَالَى وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْمُشْرِكِينَ: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [12: 106].
ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّ الْأَمْنَ فِي الْآيَةِ مَقْصُورٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ، فَإِذَا حُمِلَ الْعُمُومُ فِيهَا عَلَى إِطْلَاقِهِ وَعَدَمِ مُرَاعَاةِ مَوْضُوعِ الْإِيمَانِ يَكُونُ الْمَعْنَى: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَخْلِطُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ مَا لِأَنْفُسِهِمْ- لَا فِي إِيمَانِهِمْ وَلَا فِي أَعْمَالِهِمُ الْبَدَنِيَّةِ وَالنَّفْسِيَّةِ مِنْ دِينِيَّةٍ وَدُنْيَوِيَّةٍ، وَلَا بِغَيْرِهِمْ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ، مِنَ الْعُقَلَاءِ وَالْعَجْمَاوَاتِ- أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ مِنْ عِقَابِ اللهِ تَعَالَى الدِّينِيِّ عَلَى ارْتِكَابِ الْمَعَاصِي وَالْمُنْكَرَاتِ، وَعِقَابِهِ الدُّنْيَوِيِّ عَلَى عَدَمِ مُرَاعَاةِ سُنَنِهِ فِي رَبْطِ الْأَسْبَابِ بِالْمُسَبِّبَاتِ، كَالْفَقْرِ وَالْأَسْقَامِ وَالْأَمْرَاضِ، دُونَ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ أَوْ غَيْرَهُمْ فَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَا أَمَانَ لَهُمْ، بَلْ كُلُّ ظَالِمٍ عُرْضَةٌ لِلْعِقَابِ وَإِنْ كَانَ اللهُ تَعَالَى لِسِعَةِ رَحْمَتِهِ لَا يُعَاقِبُ كُلَّ ظَالِمٍ عَلَى كُلِّ ظُلْمٍ، بَلْ يَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ مِنْ ذُنُوبِ الدُّنْيَا، وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ فِي الْآخِرَةِ مَا دُونُ الشِّرْكِ بِهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ صَحِيحٌ فِي نَفْسِهِ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَنَّ الْأَمْنَ الْمُطْلَقَ مِنَ الْخَوْفِ مِنْ عِقَابِ اللهِ الدِّينِيِّ وَالدُّنْيَوِيِّ أَوِ الشَّرْعِيِّ وَالْقَدَرِيِّ جَمِيعًا لَا يَصِحُّ لِأَحَدٍ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ، دَعْ خَوْفَ الْهَيْبَةِ وَالْإِجْلَالِ، الَّذِي يَمْتَازُ بِهِ أَهْلُ الْكَمَالِ، وَقَدْ صَحَّ إِسْنَادُ الْخَوْفِ إِلَى الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [16: 5] {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [17: 57] {وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [21: 28] وَهَذَا التَّفْسِيرُ يُؤَيِّدُ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامِ: {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا} عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَأَمَّا الْأَمْنُ مِنْ عِقَابِ الْآخِرَةِ بِالْفِعْلِ- وَهُوَ النَّجَاةُ مِنْهُ- فَهُوَ ثَابِتٌ لِلْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَلِكَثِيرٍ مِمَّنْ دُونَهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا كُلٌّ مِنْهُمْ لِيَبْقَى جَامِعًا بَيْنَ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُؤْمِنُ فَيَمُوتُ قَبْلَ أَنْ يَظْلِمَ أَحَدًا، وَقَدْ وَرَدَ حَدِيثٌ فِي إِدْخَالِ مِثْلِ هَذَا فِي مَفْهُومِ الْآيَةِ.